دفعت المشكلات الاقتصادية المعقدة في الصين، بما في ذلك اضطرابات قطاع العقارات وارتفاع ديون الحكومات المحلية والاستهلاك الضعيف، رئيس البلاد، شي جين بينغ، إلى إطلاق العنان لمليارات الدولارات لدعم الإنفاق، ووقف الانزلاق إلى الانكماش، ودعم العملة الضعيفة.
ومع ذلك، قال محللون إن الرئيس الصيني “امتنع عن تقديم حوافز واسعة النطاق”، معتبرين ذلك “أحدث مثال على كيفية تركيزه على الأمن الداخلي والخارجي، عوضا عن استجابته للمشاكل والتعقيدات” في ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وفقا لما ورد في تقرير نشرته صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية.
ووفقاً لخبراء في السياسة الصينية والاقتصاد الصيني، فضلاً عن مستشارين حكوميين في بكين، فإن القيادة “مرتاحة لمعدلات النمو البطيئة، وتشعر بالقلق من أي رغبة في حدوث تغييرات كبيرة، قد تضاعف الديون الحكومية أو تهدد بعدم استقرار النظام المالي في البلاد”.
وفي هذا المنحى أوضح، أستاذ الاقتصاد السياسي الصيني بجامعة كاليفورنيا، فيكتور شيه: “إذا قررت إنفاق المزيد من المال بشكل كبير على أمر ما، فعليك أن تقلل من الإنفاق في قطاع آخر”.
من جانبها، رأت خبيرة الشؤون الصينية في مركز أبحاث “تشاتام هاوس” بالمملكة المتحدة، يو جي، أن “القراءة الدقيقة لإعلانات وخطابات الحكومة الصينية خلال الأشهر الأخيرة، بما في ذلك تصريحات المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم، أظهرت أن القيادة العليا كانت واضحة الرؤية بشأن خطورة الانكماش الاقتصادي”.
وأضافت أن أولوية بكين “في مواجهة البيئة الخارجية متزايدة العداء، هي الأمن والاعتماد على الذات، وليس النمو الاقتصادي”.
أسباب الأزمة العقارية في الصين.. وإلى أين تتجه؟
بعد نحو عامين من تخلف شركة “إيفرغراند” الصينية، أكبر مطور عقاري في الصين، عن السداد في عام 2021، توجهت الأنظار نحو لاعب رئيسي آخر في هذا السوق، شركة “كانتري غاردن” التي باتت في وضع مماثل
وأردفت: “لم يعد الأمر يتعلق بالنمو الاقتصادي بمعدل يتجاوز 10 في المئة، بل بالسعي إلى الأمن، وهذا هو الشعور السائد وأنه يجب الاعتماد على الذات في المجالات العلمية والاقتصادية”.
وفي الأسابيع الأخيرة، كشفت السلطات الصينية عن سلسلة من التدخلات المصممة لدعم النمو، خاصة في العقارات، التي تمثل أكثر من ربع النشاط الاقتصادي في البلاد.
وللمساعدة في استقرار سوق العقارات، قامت مدن غوانغتشو وشنتشن وبكين وشانغهاي، بتوسيع فئة مشتري المنازل الذين يتمتعون بقروض تفضيلية، لشراء منزل لأول مرة، في حين عمدت الحكومة المركزية إلى خفض أسعار الفائدة ونسب الدفعة الأولى للقروض العقارية.
والجمعة، خفض بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) كمية العملات الأجنبية التي يتعين على المؤسسات المالية الاحتفاظ بها كاحتياطي، مما يوفر المزيد من الدعم للرنمينبي (الاسم الرسمي لليوان) الذي انخفض بأكثر من 5 في المائة مقابل الدولار هذا العام.
كما تم إرسال فرق من محافظي البنوك المركزية وغيرهم من الخبراء الماليين إلى المقاطعات المثقلة بالديون، لإعادة هيكلة الالتزامات. وهناك أيضاً توقعات بمزيد من الاستثمار في البنية التحتية.
ومع ذلك، فقد جاءت البيانات الاقتصادية الصينية لشهر يوليو دون توقعات السوق – معظمها بفارق كبير – مما جعل اقتصاديين يقلصون توقعاتهم بشأن نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من هدف الحكومة، البالغ 5 في المائة، داعين إلى اتخاذ “تدابير تحفيز أقوى”.
ودعا البعض أيضا إلى “مزيد من الدعم لقطاع الإسكان”، مع امتداد الضائقة بين المطورين إلى أجزاء أخرى من النظام المالي وإلى اتخاذ تدابير لتعزيز الإنفاق الاستهلاكي.
“السيطرة على المخاطر”
ووفقاً لمستشار حكومي، طلب عدم ذكر اسمه، فإن أولوية محافظي البنوك المركزية الصينية هي “السيطرة على المخاطر، وليس تعزيز مبيعات المنازل”، وفق الصحيفة اللندنية.
وقال المصدر: “تدرك الحكومة المركزية جيدًا أن قطاع العقارات سينكمش حتمًا”، مضيفًا أن بكين “ترى أن التعديل في خططها الاقتصادية هو أمر ضروري على المدى الطويل”.
وقال ليكيان رين، الذي يدير استثمارات الصين في الصندوق الأميركي لإدارة الأصول”ويزدوم تري”، إن “بكين تعتقد أن توسيع التحفيز الحكومي المركزي إلى الحجم الذي شهدته الولايات المتحدة ردا على الأزمة المالية عام 2008، من المرجح أن يؤدي إلى ارتفاع التضخم وزعزعة استقرار الرنمينبي”.
وزاد: “الولايات المتحدة استثنائية في قدرتها على استخدام التحفيز المالي دون التأثير بشكل كبير على مجالات أخرى”، مشيرا إلى “مكانة الدولار الأميركي كعملة احتياطية عالمية”.
كما تضاءلت آمال الاقتصاديين في إجراء إصلاحات أعمق في الإنفاق العام، فعلى سبيل المثال، عبر الرئيس الصيني عن “نفوره من أنظمة الرعاية الاجتماعية على النمط الأوروبي”، إذ حذر في مقال نشر في مجلة “تشيوشي” التابعة للحزب الشيوعي الصيني، من “ضرورة مراعاة حدود دعم الدولة، وعدم الوقوع في فخ رعاية الكسالى من خلال الرفاهية”.
وأحد العناصر المهمة المفقودة في استجابة الحكومة للعقبات الاقتصادية، هو “محاولة إصلاح علاقة الإدارة مع رواد الأعمال في القطاع الخاص”.
وهنا يوضح الخبير الاستراتيجي في صندوق الاستثمار “ماثيوز آسيا”، آندي روثمان، أنه “في حين أن المخاوف من الهلاك الاقتصادي الوشيك مبالغ فيها، فإن المشكلة الأكبر هي أن الثقة بين رجال الأعمال الصينيين، لم تتعاف قط من حملة (الرخاء المشترك) الكاسحة التي أطلقها شي، التي تقوم في أحد جوانبها الرئيسية على فرض ضرائب باهظة على الأثرياء”.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن سعي الحزب الشيوعي إلى “إعادة تأكيد سيطرته على طبقة المليارديرات في البلاد، التي توسع نفوذها خلال عقود من النمو الاقتصاد، قوضت الثقة في اقتصاد البلاد”، وفق الصحيفة.
أكبر شركة لبناء المنازل في الصين “تترنح” مع تباطؤ الاقتصاد
بعد أن كانت إحدى الشركات القليلة الناجية من الاضطرابات العقارية في الصين، أصبحت شركة بناء المنازل “كانتري غاردن” تترنح، وسط تباطؤ نمو يعيشه ثاني أكبر اقتصاد بالعالم، وفقا لصحيفة “نيويورك تايمز”.
وقال روثمان: “رجال الأعمال والمستثمرون بحاجة إلى الاعتقاد بأن هذه الجهود التنظيمية المفرطة تم التراجع عنها، وأنهم أصبحوا الآن أحرارًا في ممارسة الأعمال التجارية، وأن الحكومة ستبتعد عن طريقهم”.
وخلص خبراء إلى أن ظهور مثل هذه المجموعة المعقدة من المشاكل الاقتصادية، من شأنه أن ينذر بتحدي السلطة السياسية لزعماء العالم الآخرين، لكنهم نبهوا إلى أن “قبضة شي على السلطة لم تتأثر”.
وقال الخبير في السياسة والاقتصاد الصيني في جامعة سنغافورة الوطنية، لانس غور، إن “الانكماش الأعمق قد لا يثير قلق شي”، الذي حصل العام الماضي على فترة رئاسية ثالثة مدتها 5 سنوات.
ولفت إلى أن “الرئيس الصيني قام بتعيين فريق من القادة والمسؤولين تحت شعار واحد وهو (الولاء)، وبالتالي فمن غير المرجح أن يشكك أحد في (حكمة شي)”.
اترك تعليقاً